سورة الفاتحة سميت بذلك؛ لأنه افتتح بها القرآن الكريم؛ وقد قيل: إنها أول سورة نزلت كاملة. هذه السورة قال العلماء: إنها تشتمل على مجمل معاني القرآن في التوحيد، والأحكام، والجزاء، وطرق بني آدم، وغير ذلك؛ ولذلك سميت "أم القرآن"، والمرجع للشيء يسمى "أُمًّا".
وهذه السورة لها مميزات تتميز بها عن غيرها؛ منها أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين: فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب؛ ومنها أنها رقية: إذا قرىء بها على المريض شُفي بإذن الله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال للذي قرأ على اللديغ، فبرئ: (وما يدريك أنها رقية).
وقد ابتدع بعض الناس اليوم في هذه السورة بدعة، فصاروا يختمون بها الدعاء، ويبتدئون بها الُخطب ويقرؤونها عند بعض المناسبات، وهذا غلط: تجده مثلًا إذا دعا، ثم دعا قال لمن حوله: "الفاتحة": يعني اقرءوا الفاتحة؛
وبعض الناس يبتدىء بها في خطبه، أو في أحواله - وهذا أيضًا غلط؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف، والاتِّباع. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}: الجار والمجرور متعلق بمحذوف؛ وهذا المحذوف يقدَّر فعلًا متأخرًا مناسبًا؛ فإذا قلت: "باسم الله" وأنت تريد أن تأكل؛ تقدر الفعل: "باسم الله آكل". قلنا: إنه يجب أن يكون متعلقًا بمحذوف؛ لأن الجار والمجرور معمولان؛ ولابد لكل معمول من عامل. وقدرناه متأخرًا لفائدتين:
الفائدة الأولى:
التبرك بتقديم اسم الله عز وجل.
والفائدة الثانية:
الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول: لا آكل باسم أحد متبركًا به، ومستعينًا به إلا باسم الله عز وجل. وقدرناه فعلًا؛ لأن الأصل في العمل الأفعال، وهذه يعرفها أهل النحو؛ ولهذا لا تعمل الأسماء إلا بشروط. وقدرناه مناسبًا؛ لأنه أدلّ على المقصود؛ ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلّم - : (ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله)، أو قال - صلى الله عليه وسلّم - : (على اسم الله). فخص الفعل. و{اللَّه}: اسم الله رب العالمين لا يسمى به غيره؛ وهو أصل الأسماء؛ ولهذا تأتي الأسماء تابعة له.
و{الرَّحْمنِ} أي ذو الرحمة الواسعة؛ ولهذا جاء على وزن "فَعْلان" الذي يدل على السعة.
و{الرَّحِيمِ} أي الموصل للرحمة من يشاء من عباده؛ ولهذا جاءت على وزن "فعيل" الدال على وقوع الفعل. فهنا رحمة هي صفته - هذه دل عليها {الرَّحْمنِ}، ورحمة هي فعله - أي إيصال الرحمة إلى المرحوم - دلّ عليها {الرَّحِيمِ}.
و{الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}: اسمان من أسماء الله يدلان على الذات، وعلى صفة الرحمة، وعلى الأثر: أي الحكم الذي تقتضيه هذه الصفة.
والرحمة التي أثبتها الله لنفسه رحمة حقيقية دل عليها السمع، والعقل؛ أما السمع فهو ما جاء في الكتاب، والسنة من إثبات الرحمة لله - وهو كثير جدًا؛ وأما العقل: فكل ما حصل من نعمة، أو اندفع من نقمة فهو من آثار رحمة الله.
هذا وقد أنكر قوم وصف الله تعالى بالرحمة الحقيقية، وحرّفوها إلى الإنعام، أو إرادة الإنعام، زعمًا منهم أن العقل يحيل وصف الله بذلك؛ قالوا: (لأن الرحمة انعطاف، ولين، وخضوع، ورقة؛ وهذا لا يليق بالله عز وجل)،
والرد عليهم من وجهين:
الوجه الأول:
منع أن يكون في الرحمة خضوع، وانكسار، ورقة؛ لأننا نجد من الملوك الأقوياء رحمة دون أن يكون منهم خضوع، ورقة، وانكسار.
الوجه الثاني:
أنه لو كان هذا من لوازم الرحمة، ومقتضياتها فإنما هي رحمة المخلوق؛ أما رحمة الخالق سبحانه وتعالى فهي تليق بعظمته، وجلاله، وسلطانه؛ ولا تقتضي نقصًا بوجه من الوجوه.
ثم نقول: إن العقل يدل على ثبوت الرحمة الحقيقية لله عز وجل: فإن ما نشاهده في المخلوقات من الرحمة بَيْنها يدل على رحمة الله عز وجل؛ ولأن الرحمة كمال؛ والله أحق بالكمال؛ ثم إن ما نشاهده من الرحمة التي يختص الله بها - كإنزال المطر، وإزالة الجدب، وما أشبه ذلك - يدل على رحمة الله.
والعجب أن منكري وصف الله بالرحمة الحقيقية بحجة أن العقل لا يدل عليها، أو أنه يحيلها، قد أثبتوا لله إرادة حقيقية بحجة عقلية أخفى من الحجة العقلية على رحمة الله، حيث قالوا: إن تخصيص بعض المخلوقات بما تتميز به يدل عقلًا على الإرادة؛ ولا شك أن هذا صحيح؛ ولكنه بالنسبة لدلالة آثار الرحمة عليها أخفى بكثير؛ لأنه لا يتفطن له إلا أهل النباهة؛
وأما آثار الرحمة فيعرفه حتى العوام: فإنك لو سألت عاميًّا صباح ليلة المطر: "بِمَ مطرنا؟ " لقال: "بفضل الله، ورحمته".
مسألة: هل البسملة آية من الفاتحة؛ أو لا؟
في هذا خلاف بين العلماء؛ فمنهم من يقول: إنها آية من الفاتحة،ويقرأ بها جهرًا في الصلاة الجهرية، ويرى أنها لا تصح إلا بقراءة البسملة؛ لأنها من الفاتحة. ومنهم من يقول: إنها ليست من الفاتحة؛ ولكنها آية مستقلة من كتاب الله، وهذا القول هو الحق؛ ودليل هذا النص، وسياق السورة.
أما النص: فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فإذا قال: {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]. قال الله تعالى: حمدني عبدي،
وإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي؛ فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، قال الله تعالى: مَّجدني عبدي،
فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي نصفين؛ وإذا قال: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: 6]. قال الله تعالى: هذا لعبدي؛ ولعبدي ما سأل)، وهذا كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة؛
وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلّم - وأبي بكر، وعمر، وعثمان؛ فكانوا يستفتحون بـ{الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة، ولا في آخرها". والمراد لا يجهرون؛ والتمييز بينها وبين الفاتحة في الجهر، وعدمه يدل على أنها ليست منها.
أما من جهة السياق من حيث المعنى: فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق؛ وإذا أردت أن توزع سبع الآيات على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
وهي الآية التي قال الله فيها: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)؛ لأن {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]: واحدة؛ {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]: الثانية؛ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] : الثالثة؛ وكلها حق لله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]: الرابعة - يعني الوسط -
وهي قسمان: قسم منها حق لله؛ وقسم حق للعبد؛ {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: 6] للعبد؛ {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} [الفاتحة:7]. للعبد؛ {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] للعبد.
فتكون ثلاث آيات لله عز وجل وهي الثلاث الأولى؛ وثلاث آيات للعبد وهي الثلاث الأخيرة؛ وواحدة بين العبد وربه وهي الرابعة الوسطى. ثم من جهة السياق من حيث اللفظ فإذا قلنا: إن البسملة آية من الفاتحة لزم أن تكون الآية السابعة طويلة على قدر آيتين؛
ومن المعلوم أن تقارب الآيات في الطول والقصر هو الأصل.
فالصواب الذي لا شك فيه أن البسملة ليست من الفاتحة كما أن البسملة ليست من بقية السور
مع تحياتي فادي ارهابي غزة